المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ))[الأنعام:18]، ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ))[النحل:50]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره: {والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله}، وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرّه على ما قال وضحك منه، {وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله:
شهدت بإذن الله أن محمداً            رسول الذي فوق السماوات من علُ
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما            له عمل من ربه متقبلُ
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم            رسول أتى من عند ذي العرش مرسلُ
وأن أخا الأحقاف إذْ قام فيهـم            يجاهد في ذات الإله ويعدل
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا أشهد
}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي}، وفي رواية: {تغلب غضبي} رواه البخاري وغيره.
وروى ابن ماجة عن جابر يرفعه، قال: {بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نورٌ، فرفعوا إليه رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: ((سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ))[يس:58]، فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه}]
اهـ.
الشرح:
ذكر المصنف رحمه الله تعالى ما يدل على إثبات الفوقية لله تعالى، وأنه فوق العالمين أجمعين، ودلائل الفوقية هي من الشواهد والدلائل على علو الله سبحانه وتعالى، فإن الوصف بالفوقية هو إثبات لعلوه سبحانه وتعالى، وسيأتي إثبات الاستواء وإثبات النزول وغير ذلك، وكلها تدل على أنه سبحانه وتعالى متصف بصفة العلو، وأنه فوق المخلوقات جميعاً.
والعلو: هو الصفة الشاملة التي يدركها كل أحد، فإن كون الله سبحانه وتعالى فوق العالم عالٍ عليه، أمر يدركه كل ذي عقل، فهو معلوم بالعقل والفطرة، وستأتي الأدلة السمعية على ذلك مفصلة، فمنها ما فيه التصريح بالعلو، ومنها ما فيه التصريح بالفوقية، ومنها ما فيه التصريح بغير ذلك، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الأدلة على علو الله تعالى تعد بالمئات بل بالآلاف، ومع ذلك فقد كابر فيها من كابر من الذين أعمى الله تبارك وتعالى بصائرهم عن الحق فأنكروا ما دلت عليه تلك الأدلة.
  1. الرد على الجهمية في إنكارهم للعلو وبيان من تأثر بهم

    وأول من أنكر علو الله تعالى وأنه فوق العرش هم الجهمية، وهي الفرقة المنسوبة إلى جهم بن صفوان، وتكاد تكون منقرضة، فلا توجد اليوم فرقة تنتسب إلى جهم في كل ما قاله وتسمي نفسها الجهمية، بل كل الفرق تتبرأ من جهم، لكننا إذا تأملنا كلام جهم، فإننا نجد أن بعض الفرق التي تدعي منابذته وعداوته والبراءة منه، هي متفقة معه في أصول كلامه مع تعديل وتحوير في مضمون كلامه، ولذلك فلا غرابة أن يؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاب بيان تلبيس الجهمية، ويرد عليهم في كثير من كتبه كـالفتاوى وغيرها، وممن رد عليهم ابن القيم في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية والإمام الذهبي في كتابه العلو وغيرهم، فمن يقصدون بـالجهمية؟
    إن الفرقة التي أخذت عن الجهمية أصولها ومبادئها، وإن كانت قد حورت وعدلت وغيرت واستنبطت أدلة جديدة، وظنت أن هذا هو المنهج الحق، وأنه مذهب أهل السنة والجماعة، وأن الأدلة العقلية والنقلية تؤيده -هي فرقة الأشعرية .
    وكتاب شيخ الإسلام بيان تلبيس الجهمية له اسم آخر وهو نقض التأسيس، فهو رد على كتاب تأسيس التقديس الذي ألفه الفخر الرازي، وقد كان الرازي إمام الأشعرية في زمانه، وله مؤلفات في الأصول والتفسير وعلم الكلام والفلسفة، وقد كان يكتب ويؤلف بغزارة كما في كتابه التفسير الكبير واسمه: مفاتيح الغيب، وكان يعتمد في تأليفه على قريحته وفكره، لكنه ضعيف للغاية في علوم الحديث والسنة، حتى إن كلامه في التأسيس كلام غريب مريب، يدل على جهل شديد بعلم السنة، وهذا دأب كل من ضل عن الطريق القويم.
    إذاً: الفخر الرازي -كمثال- ورث هذا القول -وهو إنكار علو الله تعالى- عن الجهمية وأورثه للأشعرية من بعده، ومن قبله كانوا يقولون بذلك أيضاً كما في رسالة أبي محمد الجويني الأب رحمه الله، الذي رجع عن هذا القول، وكتب رسالته الثمينة القيمة التي طبعت بعنوان: النصيحة في صفات الله عز وجل .
  2. أثر الفخر الرازي على المذهب الأشعري

    لقد كان ظهور الرازي مرحلة جديدة من مراحل المذهب الأشعري، انصرف بعدها المذهب إلى التجريدات الفلسفية العميقة، بعد أن لم يكن كذلك، كما نجد مثلاً في كلام أبي المعالي الجويني الابن، ففيه شيء من الوضوح وشيء من الدلائل العقلية مع الدلائل النقلية، وما أشبه ذلك، أما بعد أن جاء الرازي فإنه أوغل بالقوم في المسائل العقلية والأمور الفلسفية، وكانت المشكلة الكبرى التي أحدثها كتاب التأسيس وما بعده أن آل الأمر بـالأشعرية والماتريدية وبمن تأثر بـالفخر الرازي إلى أن يبحثوا عن مسألة: هل الذين يثبتون علو الله، وأنه فوق المخلوقات؛ هم كفار أو مسلمون؟ وهل يعذرون بالجهل لأنهم أخذوا بظواهر الأدلة أم لا يعذرون؟
    بل صرح بعضهم بأن أكثر العامة كفار؛ لأنهم يثبتون علو الله، وأنه فوق مخلوقاته، قالوا: لأن هذا إثبات للجهة والمكان، وهو دليل على الجهل، والجهل في العقيدة لا يجوز، فكفروا بذلك عامة المسلمين - نسأل الله العفو والعافية-.
    وإن مما يكفي لنقض كلام الرازي ومن اتبعه: ما حدث للرازي نفسه قبل وفاته، فإنه صرح بهذه المسألة كمثال للمسائل التي يجب على الإنسان أن يرجع فيها إلى الحق ويترك الباطل، فقد قال قبل موته: (لقد تأملت المناهج الفلسفية والطرق الكلامية، فما وجدتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ووجدت أن أفضل الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، واقرأ في النفي قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11]).
    فهذا كلام واضح وصريح في أنه قد رجع إلى المذهب الحق في آخر حياته؛ بل إنه دعا الله وهو على فراش الموت أن يغفر له خوضه في علم الكلام؛ فقد صرح بأن كل تلك الطرق والمناهج لا خير فيها ولا حق، وإنما فيها الضلال والشر، وأن طريقة القرآن هي الحق، وذكر مثالاً في الإثبات قوله تعالى: : ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، وهو ما نقضه نقضاً طويلاً في تفسيره في سورة الأعراف آية (54) كما سيأتي.